بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله...
في وقت مضى وقفت متأملا لسورة النور , فشدني الترابط القوي بين آيات السورة … فهي كل لا يتجزأ يهدف إلى تربية الأمة المسلمة أخلاقيا ...
قلت حينها سأعود لاحقا لأعطي السورة جزأً من حقها من التأمل ومراجعة بعض كتب التفسير بغية الخروج بنموذج لتخليص المجتمع المسلم من السلوكيات السلبية...
ولعلي اليوم أحاول ذلك سائلاً الله التوفيق والسداد ...
حتى يتخلص المجتمع من آفة خُلقية أو اجتماعية ينبغي أن تتضافر الجهود لاقتلاع تلك الآفة من المجتمع على مستويات متعددة ...
لعل أولها هو سن القوانين المُجرِمة لذلك السلوك مما يوفر رادعاً خارجياً يمنع من ارتكابه...
فنجد السورة تبدأ بوقفة صارمة تجاه من يتجاوز حدود الله وتدعوا المجتمع المسلم للتصدي لكل من يقوم بهذا الانتهاك ...
(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ 2)
كما يحتاج المجتمع لحملة توعوية لبيان المخاطر والأضرار المترتبة على ذلك السلوك , ويكون من أهداف هذه الحملة إسقاط هذا العمل من قلوب الناس حتى يصبح مستهجنا لديهم ...
فبعد أن بين سبحانه وتعالى حد مرتكب الزنا نجد الآية التالية تركز على شناعة هذا الجرم بإخراج فاعله من دائرة المجتمع المسلم وتقريبه من دائرة المشركين ...
(الزَّانِي لا يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ 3)
ولحماية المجتمع من التساهل في الإكثار من الحديث عن هذه السلوكيات - فيُطَّبع نفسيا - نجد حد القذف يقف حاميا لأعراض الشرفاء...
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ 4)
ويضرب المثل بعدها بأفظع جريمة قذف عاشتها الأمة المسلمة من خلال قذف زوجة النبي صلى الله عليه وسلم وابنة الصديق رضي الله عنهما !!!
(إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ 11)
ثم نجد بياناً للطرق المؤدية إلى ذلك السلوك والتحذير منها لأن النهاية ستكون معروفة... فيحذرنا الله من اتباع خطوات عدونا الذي يسره ما يسوؤنا ...
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 21)
ومما يميز التشريع الإسلامي المعالجة الجذرية للمشكلة بإغلاق الأبواب المؤدية إليها ...
و لأن النظرة المحرمة هي من اكبر أبواب الزنا , نجد تشريع الاستئذان...
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ 27)
ثم يأتي التعقيب العجيب الذي يتعامل مع القضية بواقعية , خصوصا أن النظرة العابرة لا مفر منها , فتكون العبرة بغض البصر ...
( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ 30 وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ 31 )
وبما أن الميل الفطري موجود عند الناس نجد أن فتح باب للبدائل المباحة من أهم الوسائل الكفيلة بتقليل فرصة الوقوع في ذلك العمل و لذا شرع الله لنا منفذا عمليا مباحا وهو الزواج فحضنا عليه ورغبنا فيه ...
(وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ 32)
فإن لم يستطع المسلم فليعتصم بالله ...
(وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ 33)
ويرتبط ذلك كله بنور الله عز وجل ... (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ 35)
أعتقد أننا من خلال هذا العرض نخرج بنموذج عملي لمعالجة أي آفة متأصلة في المجتمع وذلك من خلال :
سن القوانين الرادعة مع الحملات التوعوية التي تسقط الآفة اجتماعيا و تحذر من الوسائل المساعدة على انتشارها لحماية المجتمع من التساهل بها , ومن ثم بيان الطرق المؤدية اليها وإغلاق تلك الطرق مع التعامل بواقعية مع احتمالية الوقوع في الخطاء , و بيان الحلول البديلة , ويسبق كل ذلك ويتبعه الاستعانة بالله عز وجل...
روابط ذات علاقة:
شكراً أبا المعتصم على هذا الطرح والعرض الجميلين واللذان تعودناهما منك بإستمرار
ردحذفكما أن المنهج الذي ذكرته منهج واضح وبين ولا يحتاج إلى بحث أو دراسات لأنه منهج رباني ولكننا دائماً نبدأ البحث في المكان الخطأ ونسأل الآخرين وغير ذلك ونحن لدينا خير دليل ومرشد لحياتنا وما بعد مماتنا "إنه القرآن الكريم"
وإنني لأجد في نفسي شيئاً غريباً من التعجب والإعجاب عند قرائتي لهذه السورة كلما مررت بها (بعد فترات طويلة مع الأسف) أو كلما سمعت إماماً يقرأ بها، وخصوصاً الآيات المرتبطة بنور الله عز وجل
نسأل الله العلي القدير أن يجعل من أمامنا نوراً ومن خلفنا نوراً وعن أيماننا نوراً وعن شمائلنا نوراً ومن فوقنا نوراً ومن تحتنا نوراً وفي قلوباً نوراً......
اللهم آمين
أخي العزيز حسن ..
ردحذفتشرفني دائماً بدعوتك وأنا والله سعيد بذلك كثيراً ولي رغبة في التعليق هذه المرة فهل تسمح لي؟
موضوع الساعة في كل مكان !
ربما شدني العنوان كثيراً .. وأعجبني في ذات الوقت .. إلا أن تعميق جذور الخير أجدى من اقتلاع جذور الشر!
استطرادات جميلة وإشراقات رائعة تعجبني كثيراًولي بعض التعديل في أنموذجها العملي الذي ختمت به:
"سن القوانين لحماية المجتمع (الواعي - من خلال خطة وعي طويلة المدى تتضمن حملات توعوية توضح الآفة وضررها فرديا واجتماعيا ومن ثم تسقطها)- حمايته من تفشي الآفة أو التساهل بها ,وبيان كل البدائل الممكنة , وإيجاد مرافئ لكل أنشطة المجتمع بكل فئاته, مع التعامل بواقعية مع احتمالية الوقوع في الخطأ , ويسبق كل ذلك ويتبعه الاستعانة بالله عز وجل..."
أقصد ملاحظة أن القوانين الرادعة تكون غير ذات معنى حينما لا تنبع من حاجة كل المجتمع -الماسة- لتطبيقها وصدق التزامهم بها, الأمر الذي يجعل التوعية التي تحقق ما أسميه بـ "ثقافة النظام" تسبق القوانين!
بالإضافة إلى أن بيان كل المتاحات بدون سلطة شخصية أو مذهبية على دين الناس مع إيجاد مناشط لكل فئات المجتمع متفرقين ومجتمعين أمر محوري في جعل ظاهرة فشو الآفة مجرد حالات فردية تقلق المجتمع ليمنج النظام حينها سلطة التعامل معها بكل حزم.
أشكرك على دعوتي المتجددة لزيارة مدونتك الفريدة وأشكرك أكثر على عنوانها الأكثر تفرداً
أحسنت ولكن تمنيت لو أنك فصلت أكثر.
ردحذفبارك الله فيك وفي هذا الإستطراد الجميل في سورة النور
ردحذفقراءة جميلة وخروج بمنهجية جميلة
في معالجة المشاكل الإجتماعية التي تواجهها المجتمعات هذا الزمان
ننتظ جديدك
تحياتي
وئام
سلمت يداك وجزاك الله خيرا
ردحذفمدونه جميلة جدا
تقبل مروري
أخوك
شوقي
اهلا وسهلا أخي ابو عبدالملك
ردحذفواسأل الله أن يوفقنا الى تدبر كتابه
الهل وسهلا م ابراهيم
منور ....أسمح لك ونص
"التخلية مع التحليه وليس قبلها"
وعزل الحالات الشاذه
نحن متفقان
ابو لين
لا أحب أن يطول المقال وهي مجرد إشراقة وليس استقصاء
شاكرا مرورك
وئام
انت الأجمل دائما
شوقي
اشكر متابعتك وحضورك الدائم
جزاك الله خير على الاستنباط و التلخيض السهل الممتنع
ردحذفهشام الادريسي (ابوعبدالله)
أخي الكريم أنا استمتع بقراءة كل موضوعاتك لعدة أسباب منها أنني أحبك في الله ومعجبك بك وثانياً مواضيعك جاذبة وشيقة ومختصرة وهادفة وعقلانية وشدتني مداخلة الأخ ابراهيم حجاب ولعلي اعلق عليها لاحقا لأنني حاليا أتابع برنامج حواري في المستقلة بين الشيعة والسنة ممتع جدا وودي أتابعة بتركيز لأن هذا البرنامج يقوي الإيمان حيث تشعر فيه بنعمة العقل وبنعمة إتباع السنه.
ردحذف