بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله،،،
وقفنا في الأسبوع الماضي عند الإعداد والتهيئة التي يحتاج إليها صاحب الرسالة وصاحب المشروع، و رأينا أن الطريق إلى ذلك يحتاج لخلوة مع إغراق في التأمل و الالتجاء إلى الله عز وجل والاتصال به في جنح الظلام طلبا للتوفيق والسداد مع الاستغراق في الذكر والتبتل لله عز وجل، فإذا ما أطمئنت النفس إلى منهجها وحددت أهدافها فلتكن المرحلة الثانية محورا لحديثنا اليوم...
(وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً 10 المزمل) امض ولا تلتفت واحذر من بنيات الطريق والمعارك الجانبية التي تستهلك الوقت وتفسد النفس دون أن يكون لها ثمرة ظاهرة وليكن زادك في ذلك هو الصبر ثم الصبر ثم الصبر، فلو سألنا أي ناجح في الدنيا عن سبب وحيد يصلح لأن يكون السبب الأول في نجاحه فسيقول لك دون تردد الصبر. والحديث عن الصبر يطول فقد تكرر ذكره في الكتاب والسنة.
اذكر هنا جزء من جواب شيخ الإسلام ابن تيمية حينما سؤل عن (الصبر الجميل) و (الصفح الجميل) و(الهجر الجميل) ؟ فقال ضمن إجابة طويلة ومفصلة "ولابد للإنسان من شيئين: طاعته (الله) بفعل المأمور وترك المحظور وصبره على ما يصيبه من القضاء المقدور. فالأول هو التقوى، والثاني هو الصبر."
وأعجب من دقة استنباطه رحمه الله والذي جاء مستندا لاقتران متكرر - ألحظه لأول مرة - جاء بين التقوى والصبر في مواضع عدة من القران منها {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} ؛ {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} ؛ {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[آل عمران]، وقول يوسف {أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[يوسف90].
فكل صاحب مشروع هو بأمس الحاجة لهذين الأصلين من التقوى والصبر فبهما يكون التوفيق والنجاح بإذن الله، كما نجد في الآية التي نقف معها أصل المعاملة مع الناس والتي تتلخص في (خالطهم واصبر على أذاهم أو أهجرهم واسترح منهم) ! لذا نجد هذا التوجيه بقول الله تعالى (واهجرهم هجرا جميلا). . لا عتاب معه ولا غضب، والهجر الجميل على التطاول والتكذيب، يحتاج إلى الصبر بعد الذكر.
وهنا يحسن التأكيد على أن يكون غالب أمرنا في الفعل لا في رد الفعل، فنحن محتاجون لوضع منهج واضح نسير عليه ونصبر على ما يواجهنا في هذا الطريق دون أن نستهلك أوقاتنا في التفاعل مع ردود الأفعال المتفرقة والغير ممنهجة والتي ستقودنا إلى لا شيء، نحتاج أن نوطن أنفسنا على عدم استنزاف طاقاتنا فلسنا ملزمين بأن يكون لنا رأي في كل مسألة وموقف من كل حادثة.
ونجد القران يؤكد هذا المنهج من خلال قول الله تعالى (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً 11 المزمل) هكذا دون تحديد لشخص معين فترك خط الرجعة مفتوحا لهم جميعا ولم يفتح معارك شخصية جانبية، كما يوجه رسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم بأن يستريح من التفكير في شأن المكذبين ويركز على دعوته وبناء دائرته الأولى التي ستحمل مشاعل النصر بإذن الله.
هكذا يكون المنهج متكاملا، يصلح لتحقيق أي هدف كان:
يبدأ باستخراج الفكرة الناتجة عن تأمل وتفكر طويلين مع التزود بالطاقة النفسية اللازمة لتنفيذها ثم التركيز على تحقيق الهدف دون هدر للطاقات مستعينا بالله وصابرا على ما تواجه في طريقك نحو تحقيق هدفك ومترفعا عن بنيات الطريق.
وفقنا الله جميعا لما يرضيه عنا و يقربنا منه...
مواضيع إخترتها لك:
السلام عليكم
ردحذفماشاء الله تبارك الله
جزاك الله خيرا على هذه السلسلة الرائعة والمفيدة..
أعجبني اقتران الصبر مع التقوى في الآيات الكريمة وفي التجارب التاريخية والدعوية أيضا العديدة.. فهما صنوان لا يتفرقان.. ورحم الله شيخ الإسلام فقد كان دقيق الفهم والإستنباط ولا يستطيعها غيره بما حباه الله من علم وبما كشف له من فتوحات طوال حياته الجليلة..
أفا نستنتج من ذلك أن هنالك تجارب تاريخية أخرى جانبها الصواب والنجاح لغنها كانت صبر بلا تقوى.. أو تقوى بلا صبر.. هلا تذكرها لنا؟
أم أن الإثنين متلازمين بحيث لا مجال لأحدهما دون الآخر؟
الأمر الآخر أن الإقتران يكترر كثير في تعليمات الكريم..كما نجد العمل مع الإيمان، والجهاد مع الإنفاق وغير ذلك..
شكرا لك أخي مرة أخرى..
"وهنا يحسن التأكيد على أن يكون غالب أمرنا في الفعل لا في رد الفعل"
ردحذفأصبت عي الحقيقة يا أبا المعتصم ودمت لنا ودام قلمك نازفاً بكل خير...
1 - 2
ردحذفرائعة كما أنت أروع
ولي مداخلة بسيطة في الالتفات قرأتها مرة في أحد المواقع الإلكترونية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، ثم أما بعد:
(وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) [هود: 81 – الحجر: 65]، توجيه من الله تعالى لنبيه لوط لمّا أمره أن يسري بأهله، فمنعهم من الالتفات، وقد اختلف أهل التفسير هل خرجت امرأة لوط في جملة أهله عليه السلام أم لا، بناء على اختلافهم في الاستثناء (إِلَّا امْرَأَتَكَ) [هود:81]، هل هو من السّري أم الالتفات، في قوله تعالى: (قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) [هود:81]، ولهم في هذا أبحاث طوال ألف بعضهم فيها رسائل، والظاهر أنها خرجت معهم لكنها لم تلتزم الأمر فالتفتت، فأصابها ما أصاب قومها.
وفي النهي عن الالتفات حِكَمٌ أشار إليها العلماء منها ما ذكره ابن عاشور بقوله: "والالتفات المنهي عنه هو الالتفات إلى المكان المأمور بمغادرته كَمَا دَلّت عليه القرينة.
وسبب النهي عن الالتفات التقصي في تحقيق معنى الهجرة غضباً لحرمات الله بحيث يقطع التعلق بالوطن ولو تعلّق الرؤية. وكان تعيين الليل للخروج كَيْلاَ يُلاَقِي ممانعة من قومه أو من زوجه فيشقُّ عليه دفاعهم".
هكذا ذكر وله وجه ظاهر، بيد أن ههنا معنى آخر، هذا المعنى تجده في خبر إبراهيم عليه السلام مع هاجر، عندما جاء بهما إلى واد غير ذي زرع، والشاهد الذي نريده في البخاري(1) من حديث ابن عباس قال فيه: "ثم قفى إبراهيم منطلقاً [بعد أن وضع هاجر وإسماعيل حيث أمره الله]، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً.
وجعل لا يتلفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟
قال: نعم.
قالت: إذن لا يضيعنا، ثم رجعت. فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه فقال: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم: 37].
والشاهد قوله في الحديث: وجعل لا يلتفت إليها.
يمم وجه حيث أُمر فلم يلتفت عن قصده حساً ولا معنى.
وهذا المعنى كذلك هو الذي تجده في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه كما في صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطين هذه الراية رجلاً يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه"، قال عمر بن الخطاب: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ، قال: فتساورت لها رجاء أن أدعى لها، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فأعطاه إياها، وقال: "امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك"، قال: فسار علي شيئاً ثم وقف ولم يلتفت، فصرخ: يارسول الله على ماذا أقاتل الناس؟
قال: "قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله"(2).
والشاهد قوله: امش ولا تلتفت... فسار شيئاً ثم وقف ولم يلتفت.
يمم وجهه حيث أمر فلم يلتفت عن قصده حساً ولا معنى.
يتبع
2 - 2
ردحذفوقريب من هذا خبر سرية عبدالله بن جحش وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب لأمير السرية كتاباً وقال: "لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا"، فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس وأخبرهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم(3).
والشاهد التزامه بالأمر فلم يلتفت عما أمر به حتى أنفذه.
ولعل من هذا الباب فعل موسى عليه السلام، لما رأى العصا تهتز كأنها جان فولى مدبراً ولم يعقب، قال الله تعالى: (وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ {10} إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [النمل: 10-11].
ولعل منه كذلك ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من النهي عن الالتفات في الصلاة، فقد صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة؟ فقال: "هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد"(4).
والمعنى الجامع الذي تجده في كل هذه الأخبار، هو المنع عن الالتفات خشية أن يشغل عن إدراك ما كلف المرء به.
وهكذا إن حددت هدفك، وحررت طريقك، وتيقنت من أمرك فامض ولا تلتفت، ولاسيما إن كانت عاقبة الالتفات وبيلة قد تقطعك عن بغيتك وتحرمك مرادك وتقعدك عن أداء التكليف أو تعيقك.
ولهذا كانت مناسبة الأمر للوط عليه السلام وأهله بترك الالتفات ظاهرة في ذلك الموقف فهي دعوة للإمعان في القصد إلى مغادرة القرية، والنجاة بالنفوس أن يصيبها ما أصاب قوم السوء الفاسقين، وهكذا لو قلت لرجل انج بنفسك سوف ينفجر بركان هنا، لم يكن من الحكمة أن يتلفت! بل يعمل طاقته في الهرب من المحذور النازل.
وبهذا تظهر مناسبة التعقيب بقوله تعالى في سورة الحجر: (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ)، مع ما قبلها في أول الآية: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) [الحجر:65].
فأكد النهي عن الالتفات بالأمر إلى قصد الغاية التي منع الالتفات عنها لئلا يقطع دونها.
وتأمل لو خرجت من بيتك قاصداً مسجداً والطريق بها عقبات وهوّات، وقد أزف وقت إقامة الصلاة، وجعل يناديك مناد يريد أن يناقشك في وجوب صلاة الجماعة، أو يقنعك بالبقاء وترك المسجد، فإن وقفت معه أضعت الصلاة، وإن التفت إليه توشك أن تقع في حفرة أو تصطدم بعقبة تعيقك، وهكذا السائر في طريق الدعوة المحفوف بالعقبات والصعاب.
وبالجملة إذا حررت هدفك وتثبت من طريقك فاحذر الالتفات عنه فقد يؤدي بك إلى ما لا تحمد عقباه.
_______________
(1) صحيح البخاري (3184).
(2) صحيح مسلم (2405).
(3) علقه البخاري جازما في الصحيح 1/35.
(4) صحيح البخاري (718).
عبدالله نيازي
رائع اخى الكريم.
ردحذف1- كيف نوفق بين الصبر وحدود الطاقه البشريه
2- كيف يكون التعامل مع اولئك الذين يرون صبرك سلبى .
3- هل الصبر نسبى
4- هل هناك معيار لدراسه الصبر كمعيار دراسه الذكاء
5- هل ينفع الوعظ بااهميه الصبر فى ممارسته ... الخ .
تساؤلات كثيرة
ويبقى شكرا لك
علي
السلام عليكم
ردحذفماشاء الله ..
اسأل الله كل التوفيق والرقي لك ....
موضوع مفيد جدا
سلمت أبا المعتصم
ردحذف"نحتاج أن نوطن أنفسنا على عدم استنزاف طاقاتنا فلسنا ملزمين بأن يكون لنا رأي في كل مسألة وموقف من كل حادثة "
هذا المعنى أتأمله كثيرا وأقوله لبعض الأحباب ، ولكن المهم ألا يكون ذلك بسبب الكسل الذهني وغيره
تحياتي
الإخوة الأكارم بارك الله فيكم جميعا
ردحذفالعجيب عن مداخلاتكم اليوم كلها عبارة عن استفهامات كبيرة جدا بكبر موضوع الصبر ...
وهذا يعزز ما بدأت به في الموضوع بالقول: "والحديث عن الصبر يطول فقد تكرر ذكره في الكتاب والسنة"
على العموم هو مبحث كبير نحتاج ان نطرقه من اكثر من جانب فهو طريقٌ إلى الجنة بإذن الله...